قصة الأسد والثور مقتطفات من كتاب كليلة و دمنة – قصة و عبرة –
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف، وهو رأس البراهمة: اضرب لنا مثلاً لمتحابين يقطع بينهما الكذوب المحتال، حتى يحملهما على العداوة والبغضاء
قال بيدبا: إذا ابتلي المتحابان بأن يدخل بينهما الكذوب المحتال، لم يلبثا أن يتقاطعا ويتدابرا. ومن أمثال ذلك أنه كان بأرض دستاوند رجلٌ شيخٌ وكان له ثلاثة بنين. فلما بلغوا أشدهم أسرفوا في مال أبيهم؛ ولم يكونوا احترفوا حرفةً يكسبون لأنفسهم بها خيراً. فلامهم أبوهم؛ ووعظهم على سوء فعلهم؛ وكان من قوله لهم: يا بني إن صاحب الدنيا يطلب ثلاثة أمور لن يدركها إلا بأربعة أشياء: أما الثلاثة التي يطلب، فالسعة في الرزق والمنزلة في الناس والزاد للآخرة؛ وأما الأربعة التي يحتاج إليها في درك هذه الثلاثة، فاكتساب المال من أحسن وجه يكون، ثم حسن القيام على ما اكتسب منه، ثم استثماره، ثم إنفاقه فيما يصلح المعيشة ويرضي الأهل والإخوان، فيعود عليه نفعه في الآخرة. فمن ضيع شيئاً من هذه الأحوال لم يدرك ما أراد من حاجته: لأنه إن لم يكتسب، لم يكن مالٌ يعيش به؛ وإن هو كان ذا مالٍ واكتسابٍ ثم لم يحسن القيام عليه، أوشك المال أن يفنى ويبقى معدماً؛ وإن هو وضعه ولم يستثمره، لم تنعه قلة الإنفاق من سرعة الذهاب: كالكحل الذي لا يؤخذ منه إلا غبار الميل ثم هو مع ذلك سريعٌ فناؤه. وإن أنفقه في غير وجهه، ووضعه في غير موضعه، وأخطأ في مواضع استحقاقه، صار بمنزلة الفقير الذي لا مال له؛ ثم لا يمنع ذلك ماله من التلف بالحوادث والعلل التي تجري عليه؛ كمحبس الماء الذي لا تزال المياه تنصب فيه، فإن لم يكن له مخرجٌ ومفيضٌ ومتنفسٌ يخرج الماء منه بقدر ما ينبغي، خرب وسال ونز من نواحٍ كثيرةٍ، وربما انبثق البثق العظيم فذهب الماء ضياعاً. ثم أنبني الشيخ اتعظوا بقول أبيهم وأخذوا به وعلموا أن فيه الخير وعولوا عليه؛ فانطلق أكبرهم نحو أرضٍ يقال لها ميون؛ فأتى في طريقه على مكانٍ فيه وحلٌ كثيرٌ؛ وكان معه عجلةٌ يجرها ثوران يقال لأحدهما شتربة وللآخر بندبة، فوحل شتربة في ذلك المكان، فعالجه الرجل وأصحابه حتى بلغ منهم الجهد، فلم يقدروا على إخراجه؛ فذهب الرجل وخلف عنده رجلاً يشارفه: لعل الوحل ينشف فيتبعه بالثور. فلما بات الرجل بذلك المكان، تبرم به واستوحش؛ فترك الثور والتحق بصاحبه، فأخبره أن الثور قد مات؛ وقال له: إن الإنسان إذا انقضت مدته وحانت منيته فهو وإن اجتهد في التوقي من الأمور التي يخاف فيها على نفسه الهلاك لم يغن ذلك عنه شيئاً؛ وربما عاد اجتهاده في توقيه وحذره وبالاً عليه . كالذي قيل: إن رجلاً سلك مفازةً فيها خوفٌ من السباع؛ وكان الرجل خبيراً بوعث تلك الأرض وخوفها؛ فلما سار غير بعيد اعترض له ذئبٌ من أحد الذئاب وأضراها؛ فلما رأى الرجل أن الذئب قاصد نحوه خاف منه، ونظر يميناً وشمالاً ليجد موضعاً يتحرز فيه من الذئب فلم ير إلا قريةً خلف واد؛ ورأى الذئب قد أدركه، فألقى نفسه في الماء، وهو لا يحسن السباحة، وكاد يغرق، لولا أن بصر به قومٌ من أهل القرية؛ فتواقعوا لإخراجه فأخرجوه، وقد أشرف على الهلاك؛ فلما حصل الرجل عندهم وأمن على نفسه من غائلة الذئب رأى على عدوة الوادي بيتاً مفرداً؛ فقال: أدخل هذا البيت فأستريح فيه. فلما دخله وجد جماعةً من اللصوص قد قطعوا الطريق على رجلٍ من التجار. وهم يقتسمون ماله؛ ويريدون قتله؛ فلما رأى الرجل ذلك خاف على نفسه ومضى نحو القرية؛ فأسند ظهره إلى حائط من حيطانها ليستريح مما حل به من الهول والإعياء، إذ سقط الحائط عليه فمات. قال التاجر: صدقت؛ قد بلغني هذا الحديث. وأما الثور فإنه خلص من مكانه وانبعث. فلم يزل في مرجٍ مخصبٍ كثير الماء والكلأ؛ فلما سمن وأمن جعل يخور ويرفع صوته بالخوار. وكان قريباً منه أجمةٌ فيها أسدٌ عظيمٌ؛ وهو ملك تلك الناحية، ومعه سباعٌ كثيرةٌ وذئابٌ وبنات آوى وثعالب وفودٌ ونمورٌ؛ وكان هذا الأسد منفرداً برأيه دون أخذٍ برأي أحدٍ من أصحابه. فلما سمع خوار الثور، ولم يكن رأى ثوراُ قط، ولا سمع خواره؛ لأنه كان مقيماً مكانه لا يبرح ولا ينشط؛ بل يؤتى برزقه كل يومٍ على يد جنده. وكان فيمن معه من السباع ابنا آوى يقال لأحدهما كليلة وللآخر دمنة؛ وكانا ذوي دهاء وعلمٍ وأدبٍ. فقال دمنة لأخيه كليلة: يا أخي ما شأن الأسد مقيماً مكانه لا يبرح ولا ينشط؟ قال له كليلة: ما شأنك أنت والمسألة عن هذا؟ نحن على باب ملكنا آخذين بما أحب وتاركين لما يكره؛ ولسنا من أهل المرتبة التي يتناول أهلها كلام الملوك والنظر في أمورهم. فأمسك عن هذا، واعلم أنه من تكلف من القول والفعل ما ليس من شأنه أصابه ما أصاب القرد من النجار. قال دمنة: وكيف كان ذلك؟ قال كليلة: زعمواً أن قرداً رأى نجاراً يشق خشبة بين وتدين، وهو راكب عليها؛ فأعجبه ذلك. ثم إن النجار ذهب لبعض شأنه. فقام القرد؛ وتكلف ما ليس من شغله، فركب الخشبة، وجعل ظهره قبل الوتد، ووجهه قبل الخشبة؛ فتدلى ذنبه في الشق، ونزع الوتد فلزم الشق عليه فخر مغشياً عليه. فكان ما لقي من النجار من الضرب أشد مما أصابه من الخشبة. قال دمنة: قد سمعت ما ذكرت، ولكن اعلم أن كل من يدنو من الملوك ليس يدنو منهم لبطنه، وإنما يدنو منهم ليسر الصديق ويكبت العدو. وإن من الناس من لا مروءة له؛ وهم الذين يفرحون بالقليل ويرضون بالدون؛ كالكلب الذي يصيب عظماً يابساً فيفرح به. وأما أهل الفضل والمروءة فلا يقنعهم القليل، ولا يرضون به، دون أن تسموا به نفوسهم إلى ما هم أهلٌ له، وهو أيضاً لهم أهلٌ؛ كالأسد الذي يفترس الأرنب، فإذا رأى البعير تركها وطلب البعير، ألا ترى أن الكلب يبصبص بذنبه. حتى ترمى له الكسرة، وأن الفيل المعترف بفضله وقوته إذا قدم إليه علفه لا يعتلفه حتى يمسح ويتملق له. قمن عاش ذا مالٍ وكان ذا فضلٍ وإفضالٍ على أهله وإخوانه فهو وإن قل عمره طويل العمر. ومن كان في عيشه ضيقٌ وقلةٌ وإمساكٌ على نفسه وذويه فالمقبور أحيا منه. ومن عمل لبطنه وقنع وترك ما سوى ذلك عد من البهائم. قال كليلة: قد فهمت ما قلت؛ فراجع عقلك، واعلم أن لكل إنسانٍ منزلةً وقدراً. فإن كان في منزلته التي هو فيها متماسكاً، كان حقيقاً أن يقنع. وليس لنا من المنزلة ما يحط حالنا التي نحن عليها. قال دمنة: إن المنازل متنازعةٌ مشتركةٌ على قدر المروءة؛ فالمرء ترفعه مروءته من المنزلة الوضيعة إلى المنزلة الرفيعة؛ ومن لا مروءة له يحط نفسه من المنزلة الرفيعة إلى المنزلة الوضيعة. إن الارتفاع إلى المنزلة الشريفة شديدٌ، والانحطاط منه مهينٌ؛ كالحجر الثقيل: رفعه من الأرض إلى العاتق عسرٌ، ووضعه إلى الأرض هينٌ. فنحن أحق أن نروم ما فوقنا من المنازل، وأن نلتمس ذلك بمروءتنا. ثم كيف نقنع بها ونحن نستطيع التحول عنها؟ قال كليلة: فما الذي اجتمع عليه رأيك؟ قال دمنة: أريد أن أتعرض لأسد عند هذه الفرصة: فإن الأسد ضعيف الرأي. ولعلي على هذه الحال أدنو منه فأصيب عنده منزلةً ومكانةً. قال كليلة: وما يدريك أن الأسد قد التبس عليه أمره؟ قال دمنة: بالحس والرأي أعلم ذلك منه: فإن الرجل ذا الرأي يعرف حال صاحبه وباطن أمره بما يظهر له من دله وشكله. قال كليلة: فكيف ترجو المنزلة عند الأسد ولست بصاحب السلطان، ولا لك علمٌ بخدمة السلاطين؟ قال دمنة: الرجل الشديد القوي لا يعجزه الحمل الثقيل، وإن لم تكن عادته الحمل؛ والرجل الضعيف لا يستقل به وإن كان ذلك من صناعته. قال كليلة: فإن السلطان لا يتوخى بكرامته فضلاء من بحضرته؛ ولكنه يؤثر الأدنى ومن قرب منه. ويقال: إن مثل السلطان في ذلك مثل شجر الكرم الذي لا يعلق إلا بأقرب الشجر. وكيف ترجو المنزلة عند الأسد ولست تدنو منه؟ قال دمنة: قد فهمت كلامك جميعه وما ذكرت، وأنت صادقٌ. لكن اعلم أن الذي هو قريبٌ من السلطان ولا ذلك في موضعه ولا تلك منزلته، ليس كمن دنا منه بعد البعد وله حقٌ وحرمةٌ؛ وأنا ملتمس بلوغ مكانتهم بجهدي. وقد قيل: لا يواظب على باب السلطان إلا من يطرح الأنفة ويحمل الأذى ويكظم الغيظ ويرفق بالناس ويكتم السر؛ فإذا وصل إلى ذلك فقد بلغ مراده. قال كليلة: هبك وصلت إلى الأسد، فما توفيقك عنده الذي ترجو أن تنال به المنزلة والحظوة لديه؟ قال دمنة: لو دنوت منه وعرفت أخلاقه، لرفقت في متابعته وقلة الخلاف له. وإذا أراد أمراً هو في نفسه صواب، زينته له وصبرته عليه، وعرفته بما فيه من النفع والخير؛ وشجعته عليه وعلى الوصول إليه، حتى يزداد به سروراً. وإذا أراد أمراً بما فيه الضر والشين، وأوقفته على ما في تركه من النفع والزين، بحسب ما أجد إليه السبيل. وأنا أرجو أن أزداد بذلك عند الأسد مكانةً ويرى مني ما لا يراه من غيري: فإن الرجل الأديب الرفيق لو شاء أن يبطل حقاً أو يحق باطلاً لفعل: كالمصور الماهر الذي يصور في الحيطان صوراً كأنها خارجةٌ وليست بخارجةٍ، وأخرى كأنها داخلةٌ وليست بداخلةٍ. قال كليلة: أما إن قلت هذا أو قلت هذا فإن أخاف عليك من السلطان فإن صحبته خطرةٌ. وقد قالت العلماء: إن أموراً ثلاثة لا يجترئ عليهن إلا أهوج، ولا يسلم منهن إلا قليلٌ، وهي: صحبة السلطان، وائتمان النساء على الأسرار، وشرب السم للتجربة. وإنما شبه العلماء السلطان بالجبل الصعب المرتقى الذي فيه الثمار الطيبة والجواهر النفيسة والأدوية النافعة. وهو مع ذلك معدن السباع والنمور والذئاب وكل ضارٍ مخوفٍ. فالارتقاء إليه شديدٌ، والمقام فيه أشد. قال دمنة: صدقت فيما ذكرت؛ غير أنه من لم يركب الأهوال، لم ينل الرغائب؛ ومن ترك الأمر الذي لعله يبلغ فيه حاجته هيبةً ومخافةً لما لعله أن يتوقاه، فليس ببالغٍ جسيماً. وقد قيل: إن خصالاً ثلاثاً لن يستطيعها أحد إلا يمعونة من علو همةٍ وعظيم خطرٍ: منها عمل السلطان وتجارة البحر ومناجزة العدو. وقد قالت العلماء في الرجل الفاضل الرشيد: إن لا يرى إلا في مكانين، ولا يليق به غيرهما: إما مع الملوك مكرماً، وإما مع النساك متعبداً، كالفيل إنما جماله وبهاؤه في مكانتين: إما أن تراه وحشياً وإما مركباً للملوك. قال كليلة: خار الله لك فيما عزمت عليه.
ثم إن دمنة انطلق حتى دخل الأسد فسلم عيه. فقال الأسد لبعض جلسائه: من هذا؟ فقال فلان بن فلان. قال: قد كنت أعرف أباه. ثم سأله أين تكون؟ قال: لم أزل ملازماً باب الملك، رجاء أن يحضر أمرٌ فأعين الملك به بنفسي ورأيي: فإن أبواب الملك تكثر فيها الأمور التي ربما تحتاج فيها إلى الذي لا يؤبه له؛ وليس أحدٌ يصغر أمره إلا وقد يكون عنده بعض الغناء والمنافع على قدره؛ حتى العود الملقى في الأرض ربما نفع، فيأخذه الرجل فيكون عدته عند الحاجة إليه. فلما سمع الأسد قول دمنة أعجبه، وظن أن عنده نصيحةً ورأياً. فأقبل على من حضر فقال: إن الرجل ذا العلم والمروءة يكون خامل الذكر خافض المنزلة، فتأبى منزلته إلا أن تشب وترتفع؛ كالشعلة من النار يضربها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً. فلما عرف دمنة أن الأسد قد عجب منه قال: إن رعية الملك تحضر باب الملك، رجاء أن يعرف ما عندها من علمٍ وافرٍ. وقد يقال: إن الفضل في أمرين: فضل المقاتل على المقاتل والعالم على العالم. وإن كثرة الأعوان إذا لم يكونوا مختبرين ربما تكون مضرةً على العمل: فإن العمل ليس رجاؤه بكثرة الأعوان ولكن بصالحي الأعوان. ومثل ذلك مثل الرجل الذي يحمل الحجر الثقيل، فيقل به نفسه، ولا يجد له ثمناً. والرجل الذي يحتاج إلى الجذوع لا يجزئه القصب وإن كثر. فأنت الآن أيها الملك حقيقٌ ألا تحقر مروءةٌ أنت تجدها عند رجل صغير المنزلة: فإن الصغير ربما عظم، كالعصب يؤخذ من الميتة فإذا عمل منه القوس أكرم، فتقبض عليه الملوك وتحتاج إليه في البأس واللهو. وأحب دمنة أن يري القوم أن ما ناله من كرامة الملك غنما هو لرأيه ومروءته وعقله: لأنهم عرفوا قبل ذلك أن ذلك لمعرفته أباه، فقال: إن السلطان لا يقرب الرجال لقرب آبائهم، ولا يبعدهم لبعدهم، ولكن ينبغي أن ينظر إلى كل رجلٍ بما عنده: لأنه لا شيء أقرب إلى الرجل من جسده ومن جسده ما يدوى حتى يؤذيه ولا يدفع ذلك عنه إلا بالدواء الذي يأتيه من بعد. فلما فرغ دمنة من مقالته هذه أعجب الملك به إعجاباً شديداً، وأحسن الرد عليه، وزاد في كرامته. ثم قال لجلسائه: ينبغي للسلطان ألا يلج في تضييع حق ذوي الحقوق. والناس في ذلك رجلان: رجلٌ طبعه الشراسة، فهو كالحية إن وطئها الواطئ فلم تلدغه، لم يكن جديراً أن يغره ذلك منها، فيعود إلى وطئها ثانية فتلدغه؛ ورجلٌ أصل طباعه السهولة، فهو كالصندل البارد الذي إذا أفرط في حكه صار حاراً مؤذياً.
ثم إن دمنة استأنس بالأسد وخلا به. فقال يوما: أرى الملك قد أقام في مكانٍ واحدٍ لا يبرح منه، فما سبب ذلك؟ فبينما هما في هذا الحديث إذ خار شتربة خواراً شديداً: فهيج الأسد وكره أن يخبر دمنة بما ناله؛ وعلم دمنة أن ذلك الصوت قد أدخل على الأسد ريبةً وهيبةً. فسأله: هل راب الملك سماع هذا الصوت؟ قال لم يربني شيءٌ سوى ذلك. قال دمنة: ليس الملك بحقيقٍ أن يدع مكانه لأجل صوتٍ. فقد قالت العلماء: إن ليس من كل الأصوات تجب الهيبة. قال الأسد: وما مثل ذلك؟ قال دمنة: زعموا أن ثعلباً أتى أجمةً فيها طبل معلق على شجرةٍ، وكلما هبت الريح على قضبان تلك الشجرية حركتها، فضربت الطبل فسمع له صوتٌ عظيمٌ؛ فتوجه الثعلب نحوه لأجل ما سمع من عظم صوته؛ فلما أتاه وجده ضخماً، فأيقن في نفسه بكثرة الشحم واللحم. فعالجه حتى شقه. فلما رآه أجوف لا شيء فيه، قال: لا أدري لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتاً وأعظمها جثةً. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن هذا الصوت الذي راعنا، لو وصلنا إليه، لوجدناه ايسر مما في أنفسنا. فإن شاء الملك بعثني وأقام بمكانه حتى آتيه ببيان هذا الصوت. فوافق الأسد قوله، فأذن له بالذهاب نحو الصوت. فانطلق دمنة إلى المكان الذي فيه شتربة. فلما فصل دمنة من عند الأسد، فكر الأسد في أمره، وندم على إرسال دمنة حيث أرسله، وقال في نفسه: وأصبت في ائتماني دمنة، وقد كان ببابي مطروحاً، فإن الرجل إذا كان يحضر باب الملك، وقد أبطلت حقوقه من غير جرمٍ كان منه، أو كان مبغياً عليه عند سلطانه؛ أو كان عنده معروفاً بالشره والحرص، أو كان قد أصابه ضرٌ وضيقٌ فلم ينعشه، أو كان قد اجترم جرماً فهو يخاف العقوبة منه، أو كان يرجو شيئاً يضر الملك وله منه نفع؛ أو يخاف في شيءٍ مما ينفعه ضراً، أو كان لعدو الملك مسالماً، ولمسالمه محارباً، فليس السلطان بحقيقٍ أن يعجل بالاسترسال إليه، والثقة به، والائتمان له: فإن دمنة داهيةٌ أريبٌ. وقد كان ببابي مطروحاً مجفواً. ولعله قد احتمل علي بذلك ضغناً، ولعل ذلك يحمله على خيانتي وإعانة عدوي ونقيصتي عنده؛ ولعله صادف صاحب الصوت أقوى سلطاناً مني فيرغب به عني ويميل مع عليّ. ثم قام من مكانه فمشى غير بعيدٍ، فبصر بدمنة مقبلاً نحوه فطابت نفسه بذلك، ورجع إلى مكانه، ودخل دمنة على الأسد فقال له: ماذا صنعت؟ وماذا رأيت؟ قال: رأيت ثوراً هو صاحب الخوار والصوت الذي سمعته. قال: فما قوته؟ قال: لا شوكة له. وقد دنوت منه وحاورته محاورة الأكفاء ولا يصغرن عندك أمره: فإن الريح الشديدة لا تعبأ بضعيف الحشيش، لكنها تحطم طوال النخل وعظيم الشجر. قال دمنة: لا تهابن أيها الملك منه شيئاً؛ ولا يكبرن عليك أمره: فأنا آتيك به ليكون لك عبداً سامعاً مطيعاً. قال الأسد: دونك وما بدا لك.
فانطلق دمنة إلى الثور، فقال له غير هائب ولا مكترث: إن الأسد أرسلني إليك لآتيه بك. وأمرني، إن أنت عجلت إليه طائعاً، أو أؤمنك على ما سلف من ذنبك في التأخر عنه وتركك لقاءه؛ وإن أنت تأخرت عنه وأحجمت، أن أعجل الجرعة إليه فأخبره. قال له شتربة: ومن هو هذا الأسد الذي أرسلك إلي؟ وأين هو؟ وما حاله؟ قال دمنة: هو ملك السباع، وهو بمكان كذا، ومعه جندٌ كثيرٌ من جنسه فرعب شتربة من ذكر الأسد والسباع. وقال: إن أنت جعلت لي الأمان على نفسي أقبلت معك إليه. فأعطاه دمنة من الأمان ما وثق به. ثم أقبل والثور معه، حتى دخلا على الأسد فأحسن الأسد إلى الثور وقرّبه؛ وقال له: متى قدمت هذه البلاد؟ وما أقدمكها؟ فقص شتربة عليه قصته. فقال له الأسد اصحبني والزمني: فإني مكرمك. فدعا الثور وأثنى عليه. ثم إن الأسد قرب شتربة وأكرمه وأنس به وأتمنه على أسراره وشاوره في أمره، ولم تزده الأيام إلا عجباً به ورغبةً فيه وتقريباً منه؛ حتى صار أخص أصحابه عنده منزلةً. فلما رأى دمنة أن الثور قد اختص بالأسد دونه ودون أصحابه، وأنه قد صاد صاحب رأيه وخلواته ولهوه، حسده حسداً عظيماً، وبلغ منه غيظه كل مبلغ: فشكا ذلك إلى أخيه كليلة، وقال له: ألا تعجب يا أخي من عجز رأيي، وصنعي بنفسي؟ ونظري فيما ينفع الأسد، وأغفلت نفع نفسي حتى جلبت إلى الأسد ثوراً غلبني على منزلتي.
قال كليلة: أخبرني عن رأيك وما تريد أن تعرم عليه في ذلك. قال دمنة: أما أنا فلست اليوم أرجو أن تزداد منزلتي عند الأسد فوق ما كانت عليه؛ ولكن ألتمس أن أعود إلى ما كنت عليه: فإن أموراً ثلاثةً العاقل جدير بالنظر فيها، والاحتيال لها بجهده: منها النظر فيما مضى من الضر والنفع، فيحترس من الضر الذي أصابه فيما سلف لئلا يعود إلى ذلك الضر، ويلتمس النفع الذي مضى ويحتال لمعاودته؛ ومنها النظر فيما هو مقيم فيه من المنافع والمضاء، والاستيثاق بما ينفع والهرب مما يضر؛ ومنها النظر في مستقبل ما يرجو من قبل النفع، وما يخاف من قبل الضر، فيستتم ما يرجو ويتوقى ما يخاف بجهده. وإني لما نظرت في الأمر الذي به أرجو أن تعود منزلتي، وما غلبت عليه مما كنت فيه، لم أجد حيلةً ولا وجهاً إلا الاحتيال لآكل العشب هذا، حتى أفرق بينه وبين الحياة: فإنه إن فارق الأسد عادت لي منزلتي. ولعل ذلك يكون خيراً للأسد: فإن إفراطه في تقريب الثور خليقٌ أن يشينه ويضره في أمره. قال كليلة: ما أرى على الأسد في رأيه في الثور ومكانه منه ومنزلته عنده شيناً ولا شراً. قال دمنة: إنما يؤتى السلطان ويفسد أمره من قبل ستة أشياء: الحرمان والفتنة والهوى والفظاظة والزمان والخرق.
فأما الحرمان فأن يحرم صالح الأعوان والنصحاء والساسة من أهل الرأي والنجدة والأمانة، وترك التفقد لمن هو كذلك. وأما الفتنة فهي تحارب الناس ووقوع الحرب بينهم. وأما الهوى فالغرام بالحدث واللهو والشراب والصيد وما أشبه ذلك. وأما الفظاظة فهي إفراط الشدة حتى يجمح اللسان بالشتم واليد بالبطش في غير موضعهما. وأما الزمان فهو ما يصيب الناس من السنين والموت ونقص الثمرات والغزوات وأشباه ذلك. وأما الخرق فإعمال الشدة في موضع اللين، واللين في موضع الشدة. وإن الأسد قد أغرم بالثور إغراماً شديداً هو الذي ذكرت لك أنه خليق لأن يشينه ويضره في أمره. قال كليلة: وكيف تطيق الثور وهو أشد منك وأكرم على الأسد وأكثر أعواناً؟ قال دمنة: لا تنظر إلى صغري وضعفي: فإن الأمور ليست بالضعف ولا القوة ولا الصغر ولا الكبر في الجثة: فرب صغيرٍ ضعيفٍ قد بلغ حيلته ودهائه ورأيه ما يعجز عنه كثير من الأقوياء. أولم يبلغك أن غراباً ضعيفاً احتال لأسود حتى قتله؟ قال كليلة: وكيف كان ذلك؟ قال دمنة: زعموا أن غراباً كان له وكرٌ في شجرةٍ على جبلٍ؛ وكان قريباً منه حجر ثعبانٍ أسود، فكان الغراب إذا فرخ عمد الأسود إلى فراخه فأكله؛ فبلغ ذاك من الغراب وأحزنه، فشكا ذلك إلى صديق له من بنات آوى؛ وقال له: أريد مشاورتك في أمرٍ قد عزمت عليه؛ قال: وما هو؟ قال الغراب: قد عزمت أن أذهب اليوم إلى الأسود إذا نام، فأنقر عينيه، فأفقأهما، لعلي أستريح منه. قال ابن آوى: بئس الحيلة التي احتلت؛ فالتمس أمراً تصيب فيه بغيتك من الأسود، من غير أن تغرر بنفسك وتخاطر بها. وإياك أن يكون مثلك مثل العلجوم الذي أراد قتل السرطان فقتل نفسه. قال الغراب: وكيف كان ذلك؟ قال ابن آوى: زعموا أن علجوماً عشّش في أجمةٍ كبيرة السمك؛ فعاش بها ما عاش؛ ثم هرم فلم يستطع صيداً؛ فأصابه جوعٌ وجهدٌ شديدٌ؛ فجلس حزيناً يلتمس الحيلة في أمره؛ فمر به سرطانٌ، فرأى حالته وما هو عليه من الكآبة والحزن؛ فدنا منه وقال: مالي أراك أيها الطائر هكذا حزيناً كئيباً؟ قال العلجوم: وكيف لا أحزن وقد كنت أعيش من صيد ما ها هنا من السمك؟ وإني قد رأيت اليوم صيادين قد مرا بهذا المكان؛ فقال أحدهما لصاحبه: إن ها هنا سمكاً كثيراً أفلا نصيده أولاً؟ فقال الآخر: إني قد رأيت في مكان كذا سمكاً أكثر من هذا السمك، فلنبدأ بذلك، فإذا فرغنا منه جئنا إلى هذا فأفنيناه. وقد علمت أنهما إذا فرغا مما هناك، انتهيا إلى هذه الأجمة فاصطادا ما فيها؛ فإذا كان ذلك فهو هلاكي ونفاذ مدتي. فانطلق السرطان من ساعته إلى جماعة السمك فأخبرهن بذلك؛ فأقبلن إلى العلجوم فاستشرنه؛ وقلن له: إنا أتينا لك لتشير علينا: فإن ذا العقل لا يدع مشاورة عدوه. قال العلجوم: أما مكابرة الصيادين فلا طاقة لي بها؛ ولا أعلم حيلةً إلا المصير إلى غديرٍ قريبٍ من ها هنا، فيه سمكٌ ومياهٌ عظيمةٌ وقصبٌ، فإن استطعن الانتقال إليه، كان فيه صلاحكن وخصبكن. فقلن له: ما يمن علينا بذلك غيرك. فجعل العلجوم يحمل في كل يوم سمكتين حتى ينتهي بهما إلى بعض التلال فيأكلهما؛ حتى إذا كان ذات يوم جاء لأخذ السمكتين؛ فجاءه السرطان؛ فقال له: إني أيضاً قد أشفقت من مكاني هذا واستوحشت منه فاذهب بي إلى ذلك الغدير؛ فاحتمله وطار به، حتى إذا دنا من التل الذي كان يأكل السمك فيه نظر السرطان فرأى عظام السمك مجموعةً هناك؛ فعلم أن العلجوم هو صاحبها؛ وأنه يريد به مثل ذلك. فقال في نفسه: إذا لقي الرجل عدوه في المواطن التي يعلم أنه فيها هالك. سواءٌ قاتل أم لم يقاتل؛ كان حقيقاً أن يقاتل عن نفسه كرماً وحفاظاً ، ثم أهوى بكلبتيه على عنق العلجوم، فعصره فمات؛ وتخلص السرطان إلى جماعة السمك فأخبرهن بذلك. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن بعض الحيلة مهلكة للمحتال ولكني أدلك على أمرٍ، إن أنت قدرت عليه، كان فيه هلاك الأسود من غير أن تهلك به نفسك، وتكون فيه سلامتك. قال الغراب وما ذاك؟ قال ابن آوى: تنطلق فتبصر في طيرانك: لعلك أن تظفر بشيءٍ من حلي النساء فتخطفه؛ ولا تزال طائراً واقعاً، بحيث لا تفوت العيون، حتى تأتي حجر الأسود فترمي بالحلي عنده. فإذا رأى الناس ذلك أخذوا حليهم وأراحوك من الأسود. فانطلق الغراب محلقا في السماء؛ فوجد امرأةً من بنات العظماء فوق سطح تغتسل؛ وقد وضعت ثيابها وحليها ناحيةً؛ فانقض واختطف من حليها عقداً، وطار به، فتبعه الناس؛ ولم يزل طائراً واقعاً، بحيث يراه كل أحدٍ؛ حتى انتهى الأمر إلى جحر الأسود؛ فألقى العقد عليه، والناس ينظرون إليه. فلما أتوه أخذوا العقد وقتلوا الأسود. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن الحيلة تجرئ مالا تجزئ القوة. قال كليلة: إن الثور لو لم يجتمع مع شدته رأيه لكان كما تقول. ولكن له مع شدته وقوته حسن الرأي والعقل. فماذا تستطيع له؟ قال دمنة: إن الثور لكما ذكرت في قوته ورأيه، ولكنه مقرٌ لي بالفضل؛ وأنا خليق أن اصرعه كما صرعت الأرنب الأسد. قال كليلة: وكيف كان ذلك؟
قال دمنة: زعموا أن أسداً كان في أرضٍ كثيرة المياه والعشب؛ وكان في تلك الأرض من الوحوش في سعة المياه والمرعى شيءٌ كثيرٌ؛ إلا أنه لم يكن ينفعها ذلك لخوفها من الأسد؛ فاجتمعت وأتت إلى الأسد، فقالت له: إنك لتصيب منا الدابة بعد الجهد والتعب؛ وقد رأينا لك رأياً فيه صلاح لك وأمنٌ لنا. فإن أنت امنتنا ولم تخفنا، فلك علينا في كل يومٍ دابةٌ نرسل بها إليك في وقت غدائك: فرضي الأسد بذلك، وصالح الوحوش عليه، ووفين له به. ثم إن أرنباً أصابتها القرعة، وصارت غداء الأسد؛ فقالت للوحوش: إن أنتن رفقتن بي فيما لا يضركن؛ رجوت أن أريحكن من الأسد. فقالت الوحوش: وما الذي تكلفيننا من الأمور؟ قالت: تأمرن الذي ينطلق بي إلى الأسد أن يمهلني ريثما أبطئ عليه بعض الإبطاء. فقلن لها ذلك لك. فانطلقت الأرنب متباطئةً؛ حتى جاوزت الوقت الذي كان يتغدى فيه الأسد. ثم تقدمت إليه وحدها رويداً، وقد جاع؛ فغضب وقام من مكانه نحوها؛ فقال لها: من أين أقبلت؟ قالت: أنا رسول الوحوش إليك: بعثني ومعي أرنبٌ لك، فتبعني أسدٌ في بعض تلك الطريق، فأخذها مني، وقال: أنا أولى بهذه الأرض وما فيها من الوحش. فقلت: إن هذا غداء الملك أرسلني به الوحوش إليه. فلا تغصبنه، فسبك وشتمك. فأقبلت مسرعةً لأخبرك. فقال الأسد: انطلقي معي فأريني موضع هذا الأسد. فانطلقت الأرنب إلى جب فيه ماءٌ غامرٌ صافٍ؛ فاطلعت فيه، وقالت: هذا المكان. فاطلع الأسد، فرأى ظله وظل الأرنب في الماء؛ فلم يشك في قولها؛ ووثب إليه ليقاتله، فغرق في الجب. فانقلبت الأرنب إلى الوحوش فأعلمتهن صنيعها بالأسد. قال كليلة: إن قدرت على هلاك الثور بشيءٍ ليس فيه مضرةٌ للأسد فشأنك: فإن الثور قد أضر بي وبك وبغيرنا من الجند؛ وإن أنت لم تقدر على ذلك إلا بهلاك الأسد، فلا تقدم عليه؛ فإنه غدرٌ مني ومنك. ثم إن دمنة ترك الدخول على الأسد أياماً كثيرةً؛ ثم أتاه على خلوةٍ منه؛ فقال له الأسد: ما حبسك عني؟ منذ زمان لم أرك. ألا لخيرٍ كان انقطاعك؟ قال دمنة: فليكن خيراً أيها الملك. قال الأسد: وهل حدث أمرٌ؟ قال دمنة: حدث ما لم يكن الملك يريده ولا أحد من جنده. قال: وما ذاك؟ قال: كلامٌ فظيعٌ. قال: أخبرني به. قال دمنة إنه كلامٌ يكرهه سامعه، ولا يشجع عليه قائله. وإنك أيها الملك لذو فضيلةٍ، ورأيك يدلك على أن يوجعني أن أقول ما تكره؛ وأثق بك أن تعرف نصحي وإيثاري إياك على نفسي. وإنه ليعرض لي أنك غير مصدقي فيما أخبرك به؛ ولكني إذا تذكرت وتفكرت أن نفوسنا، معاشر الوحوش، متعلقةٌ بك لم أجد بداً من أداء الحق الذي يلزمني وإن أنت لم تسألني وخفت ألا تقبل مني فإنه يقال: من كتم السلطان نصيحته والإخوان رأيه فقد خان نفسه. قال الأسد: فما ذاك؟ قال دمنة: حدثني الأمين الصدوق عندي أن شتربة خلا برءوس جندك، وقال: قد خبرت الأسد وبلوت رأيه ومكيدته وقوته: فاستبان لي أن ذلك يئول منه إلى ضعفٍ وعجزٍ، وسيكون لي وله شأنٌ من الشئون. فلما بلغني ذلك علمت أن شتربة خوانٌ غدارٌ؛ وأنك أكرمته الكرامة كلها، وجعلته نظير نفسك، وهو يظن أنه مثلك. وأنك متى زلت عن مكانك صار له ملكك؛ ولا يدع جهداً إلا بلغه فيك. وقد كان يقال: إذا عرف الملك من الرجل أنه قد ساواه في المنزلة والحال، فليصرعه؛ فإن لم يفعل به ذلك، كان هو المصروع. وشتربة أعلم بالأمور وأبلغ فيها؛ والعاقل هو الذي يحتال للأمر قبل تمامه ووقوعه: فإنك لا تأمن أن يكون ولا تستدركه. فإنه يقال: الرجال ثلاثةٌ: حازمٌ وأحزم منه وعاجزٌ؛ فأحد الحازمين من إذا نزل به الأمر لم يدهش له، ولم يذهب قلبه شعاعاً ، ولم تعي به حيلته ومكيدته التي يرجو بها المخرج منه؛ وأحزم من هذا المتقدم ذو العدة الذي يعرف الابتلاء قبل وقوعه، فيعظمه إعظاماً، ويحتال له حتى كأنه قد لزمه: فيحسم الداء قبل أن يبتلي به، ويدفع الأمر قبل وقوعه. وأما العاجز فهو في ترددٍ وتمنٍ وتوانٍ حتى يهلك. ومن أمثال ذلك مثل السمكات الثلاث. قال الأسد: وكيف كان ذلك؟
قال دمنة: زعموا أن غديراً كان فيه ثلاث سمكاتٍ: كيسةٌ وأكيس منها وعاجزةٌ؛ وكان ذلك الغدير بنجوةً من الأرض لا يكاد يقربه أحدٌ وبقربه نهر جارٍ. فاتفق أنه اجتاز بذلك النهر صيادان؛ فأبصرا الغدير، فتواعدا أن يرجعا إليه بشباكهما فيصيدا ما فيه من السمك. فسمع السمكات قولهما: فأما أكيسهن لما سمعت قولهما، وارتابت بهما، وتخوفت منهما؛ فلم تعرج على شيءٍ حتى خرجت من المكان الذي يدخل فيه الماء من النهر إلى الغدير. وأما الكيسة فإنها مكثت مكانها حتى جاء الصيادان؛ فلما رأتهما، وعرفت ما يريدان، ذهبت لتخرج من حيث يدخل الماء؛ فإذا بهما قد سدا ذلك المكان فحينئذٍ قالت: فرطت، وهذه عاقبة التفريط؛ فكيف الحيلة على هذه الحال. وقلما تنجع حيلة العجلة والإرهاق ، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي، ولا ييئس على حالٍ، ولا يدع الرأي والجهد. ثم إنها تماوتت فطفت على وجه الماء منقلبة على ظهرها تارةً، وتارةً على بطنها؛ فأخذها الصيادان فوضعاها على الأرض بين النهر والغدير؛ فوثبت إلى النهر فنجت. وأما العاجزة فما تزلْ في إقبال وإدبار حتى صيدت. قال الأسد: قد فهمت ذلك؛ ولا أظن الثور يغشني ويرجو لي الغوائل . وكيف يفعل ولم ير مني سوءاً قطُّ؟ ولم أدع خيراً إلا فعلته معه؟ ولا أمنيةً إلا بلغته إياها؟. قال دمنة: إن اللئيم لا يزال نافعاً ناصحاً حتى يرفع إلى المنزلة التي ليس لها بأهل؛ فإذا بلغها التمس ما فوقها؛ ولا سيما أهل الخيانة والفجور: فإن اللئيم الفاجر لا يخدم السلطان ولا ينصح له إلا من فرقٍ . فإذا استغنى وذهبت الهيبة عاد إلى جوهره؛ كذنب الكلب الذي يربط ليستقيم فلا يزال مستوياً ما دام مربوطاً؛ فإذا حل انحنى واعوج كما كان. واعلم أيها الملك أنه من لم يقبل من نُصائِحه ما يثقل عليه مما ينصحون له به، لم يحمد رأيه؛ كالمريض الذي يدع ما يبعث له الطبيب؛ ويعمد إلى ما يشتهيه. وحق على موازر السلطان أن يبالغ في التحضيض له على ما يزيد من سلطانه قوةً ويزينه؛ والكف عما يضره ويشينه؛ وخير الإخوان والأعوان أقلهم مداهنة في النصيحة؛ وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار؛ وأشرف الملوك من لم يخالطه بطرٌ؛ وخير الأخلاق أعونها على الورع. وقد قيل: لو أن أمراً توسد النار وافترش الحيات، كان أحق ألا يهنئه النوم. والرجل إذا أحس من صاحبه بعداوةٍ يريده بها؛ لا يطمئن إليه؛ وأعجز الملوك آخذهم بالهوينى، وأقلهم نظراً في مستقبل الأمور. وأشبههم بالفيل الهائج الذي لا يلتفت إلى شيءٍ: فإن حز به أمر تهاون به، وإن أضاع الأمور حمل ذلك على قرنائه. قال له الأسد: لقد أغلظت في القول؛ وقول الناصح مقبولٌ محمولٌ. وإن كان شتربة معادياً لي، كما تقول، فإنه لا يستطيع لي ضراً؛ وكيف يقدر على ذلك وهو آكل عشب وأنا آكل لحم؟ وإنما هو لي طعام، وليس علي منه مخافةٌ. ثم ليس إلى الغدر به سبيل بعد الأمان الذي جعلته له، وبعد إكرامي له، وثنائي عليه. وإن غيرت ما كان مني وبدلته. سفهت رأيي وجهلت نفسي وغدرت بذمتي. قال دمنة: لا يغرنك قولك: هو لي طعام وليس علي منه مخافةٌ: فإن شتربة إن لم يستطعك بنفسه احتال لك من قبل غيره. ويقال: إن استضافك ضيفٌ ساعةً من نهارٍ، وأنت لا تعرف أخلاقه فلا تأمنه على نفسك؛ ولا تأمن أن يصلك منه أو بسببه ما أصاب القملة من البرغوث. قال الأسد: وكيف كان ذلك؟ قال دمنة: زعموا أن قملة لزمت فراش رجلٍ من الأغنياء دهراً فكانت تصيب من دمه وهو نائمٌ لا يشعر، وتدب دبيباً رفيقاً؛ فمكث كذلك حيناً حتى استضافها ليلةً من الليالي برغوثٌ؛ فقالت له: بت الليلة عندنا في دمٍ طيبٍ وفراشٍ لينٍ؛ فأقام البرغوث عندها حتى إذا أوى الرجل إلى فراشه وثب عليه البرغوث فلدغه لدغةً أيقظته؛ وأطارت النوم عنه؛ فقام الرجل وأمر أن يفتش فراشه؛ فنظر فلم ير إلا القملة؛ فأخذت فقصعت وفر البرغوث. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن صاحب الشر بسببه. وإن كنت لا تخاف من شتربة، فخف غيره من جندك الذين قد حملهم عليك وعلى عداوتك. فوقع في نفس الأسد كلام دمنة. فقال: فما الذي ترى إذاً؟ وبماذا تشير؟ قال دمنة: إن الضرس لا يزال متآكلاً، ولا يزال صاحبه منه في ألمٍ وأذًى حتى يفارقه. والطعام الذي قد عفن في البطن، الراحة في قذفه. والعدو المخوف، دواؤه قتله. قال الأسد: لقد تركتني أكره مجاورة شتربة إياي؛ وأنا مرسلٌ إليه، وذاكراً له ما وقع في نفسي منه؛ ثم آمره باللحاق حيث أحب. فكره دمنة ذلك، وعلم أن الأسد متى كلم شتربة في ذلك وسمع منه جواباً عرف باطل ما أتى به، واطلع على غدره وكذبه؛ ولم يخف عليه أمره. فقال للأسد: أما إرسالك إلى شتربة فلا أراه لك رأياً ولا حزماً؛ فلينظر الملك في ذلك: فإن شتربة متى شعر بهذا الأمر، خفت أن يعاجل الملك بالمكابرة. وهو إن قاتلك قاتلك مستعداً؛ وإن فارقك، فارقك فراقاً يليك منه النقص، ويلزمك منه العار. مع أن ذوي الرأي من الملوك لا يعلنون عقوبة من لم يعلن ذنبه؛ ولكن لكل ذنب عندهم عقوبةٌ: فلذنب العلانية عقوبة العلانية، ولذنب السر عقوبة السر. قال الأسد: إن الملك إذا عاقب أحداً عن ظنةٍ ظنها من غير تيقن بجرمه، فنفسه عاقب وإياها ظلم. قال دمنة: أما إذا كان هذا رأي الملك، فلا يدخلن عليك شتربة إلا وأنت مستعدٌ له؛ وإياك أن تصيبك منه غرةٌ أو غفلةٌ: فإني لا أحسب الملك حين يدخل عليه إلا سيعرف أنه قد هم بعظيمةٍ. ومن علامات ذلك أنك ترى لونه متغيراً؛ وترى أوصاله ترعد؛ وتراه ملتفتاً يميناً وشمالاً؛ وتراه يهز قرنيه فعل الذي هم بالنطاح والقتال. قال الأسد: سأكون منه على حذرٍ؛ وإن رأيت منه ما يدل على ما ذكرت علمت أن ما في أمره شكٌ.
فلما فرغ دمنة من حمل الأسد على الثور، وعرف أنه قد وقع في نفسه ما كان يلتمس، وأن الأسد سيتحذر الثور، ويتهيأ له، أراد أن يأتي الثور ليغريه بالأسد؛ وأحب أن يكون إتيانه من قبل الأسد مخافة أن يبلغه ذلك فيتأذى به. فقال: أيها الملك ألا آتي بشتربة فانظر إلى حاله وأمره؛ وأسمع كلامه: لعلي اطلع على سره، فأطلع الملك على ذلك، وعلى ما يظهر لي منه؟ فأذن له الأسد في ذلك. فانطلق فدخل على شتربة كالكئيب الحزين. فلما رآه الثور رحب به، وقال: كان سبب انقطاعك عني؟ فإني لم أرك منذ أيامٍ؛ ولعلك في سلامةٍ! قال دمنة: ومتى كان أهل السلامة من لا يملك نفسه، وأمره بيد غيره ممن لا يوثق به، ولا ينفك على خطرٍ وخوفٍ. حتى ما من ساعة تمر ويأمن فيها على نفسه. قال شتربة: وما الذي حدث؟ قال دمنة: حدث ما قدر وهو كائنٌ. ومن ذا الذي غالب القدر؟ ومن ذا الذي بلغ من الدنيا جسيماً من الأمور فلم يبطر؟ ومن ذا الذي بلغ منياه فلم يغتر؟ ومن ذا الذي تبع هواه فلم يخسر؟ ومن ذا الذي طلب من اللئام فلم يحرم؟ ومن ذا الذي خالط الأشرار فسلم؟ ومن ذا الذي صحب السلطان فذام له منه الأمن والإحسان؟ قال شتربة: إني أسمع منك كلاماً يدل على أنه قد رابك من الأسد ريبٌ، وهالك منه أمرٌ. قال دمنة: أجل، لقد رابني منه ذلك، وليس هو في أمر نفسي، قال شتربة: ففي نفس من رابك؟ قال دمنة: قد تعلم ما بيني وبينك، وتعلم حقك علي، وما كنت جعلت لك من العهد والميثاق أيام أرسلني الأسد إليك، فلم أجد لك بداً من حفظك وإطلاعك على ما أطلعت عليه مما أخاف عليك منه. قال شتربة: وما الذي بلغك؟ قال دمنة: حدثني الخبير الصدوق الذي لا مرية في قوله أن الأسد قال لبعض أصحابه وجلسائه: قد أعجبني سمن الثور؛ وليس لي إلى حياته حاجةٌ، فأنا آكله ومطعم أصحابي من لحمه. فلما بلغني هذا القول، وعرفت غدره ونقض عهده؛ أقبلت إليك لأقضي حقك؛ وتحتال أنت لأمرك. فلما سمع شتربة كلام دمنة، وتذكر ما كان من دمنة جعل له من العهد والميثاق، وفكر في أمر الأسد، ظن أن دمنة قد صَدَقَهُ ونصح له؛ ورأى أن الأمر شبيهٌ بما قال دمنة. فأهمه ذلك؛ وقال: ما كان للأسد أن يغدر بي ولم آت إليه ذنباً، ولا إلى أحد من جنده، منذ صحبته؛ ولا أظن الأسد إلا قد حمل علي بالكذب وشبه عليه أمري: فإن الأسد قد صحبه قوم سوءٍ؛ وجرَّب منهم الكذب وأموراً هي تصدق عنده ما بلغه من غيرهم: فإن صحبة الأشرار ربما أورثت صاحبها سوء الظن بالأخيار؛ وحملته تجربته على الخطأ كخطأ البطة التي زعموا أنها رأت في الماء ضوء كوكبٍ، فظنته سمكةً، فحاولت أن تصيدها، فلما جربت ذلك مراراً، علمت أنه ليس بشيءٍ يصاد فتركته. ثم رأت من غد ذلك اليوم سمكةً، فظنت أنها مثل الذي رأته بالأمس، فتركتها ولم تطلب صيدها. فإن كان الأسد بلغه عني كذبٌ فصدقه علي وسمعه في، فما جرى على غيري يجري علي. وإن كان لم يبلغه شيءٌ، وأراد السوء بي من غير علةٍ، فإن ذلك لمن أعجب الأمور. وقد كان يقال: إن من العجب أن يطلب الرجل رضا صاحبه ولا يرضى. وأعجب من ذلك أن يلتمس رضاه فيسخط. فإذا كانت الموجدة عن علةٍ، كان الرضا موجوداً والعفو مأمولاً. وإذا كانت عن غير علةٍ، انقطع الرجاء: لأن العلة إذا كانت المودة في ورودها، كان الرضا مأمولاً في صدورها. قد نظرت: فلا أعلم بيني وبين الأسد جرماً، ولا صغير ذنب، ولا كبيره. ولعمري ما يستطيع أحد أطال صحبة صاحب أن يحترس في كل شيءٍ من أمره، ولا أن يتحفظ من أن يكون منه صغيرةٌ أو كبيرةٌ يكرهها صاحبه؛ ولكن الرجل ذا العقل وذا الوفاء إذا سقط عنده صاحبه سقطةً نظر فيها، وعرف قدر مبلغ خطئه عمداً كان أو خطأً. ثم ينظر هل في الصفح عنه أمرٌ يخاف ضره وشينه؟ فلا يؤاخذ صاحبه بشيءٍ يد فيه إلى الصفح عنه سبيلاً. فإن كان الأسد قد اعتقد على ذنباً؛ فلست أعلمه؛ إلا أني خالفته في بعض رأيه نصيحةً له؛ فعساه أن يكون قد أنزل أمري على الجراءة عليه والمخالفة له؛ ولا أجد لي في هذا المحضر إثماً ما: لأني لم أخالفه في شيءٍ إلا ما قد ندر من خالفة الرّشد والمنفعة والدِّين، ولم أجاهر بشيءٍ من ذلك على رءوس جنده وعند أصحابه؛ ولكني كنت أخلو به وأكلمه سراً كلام الهائب الموقر وعلمت أنه من التمس الرخص من الإخوان عند المشاورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن الفقهاء عند الشبهة، أخطأ منافع الرأي؛ وازداد فيما وقع فيه من ذلك تورطاً ، وحمل الوزر. وإن لم يكن هذا، فعسى أن يكون ذلك من بعض سكرات السلطان: فإن مصاحبة السلطان خطرةٌ، وإن صوحب بالسلامة والثقة والمودة وحسن الصحبة. وإن لم يكن هذا، فبعض ما أوتيت من الفضل قد جعل لي فيه الهلاك. وإن لم يكن هذا ولا هذا، فهو إذاً من مواقع القضاء والقدر الذي لا يدفع عنه؛ وهو الذي يحمل الرجل الضعيف على ظهر الفيل الهائج؛ وهو الذي يسلط على الحية ذات الحمة من ينزع حمتها ويلعب بها؛ وهو الذي يجعل العاجز حازماً، ويثبط الشهم، ويوسع على المقتر ، ويشجع الجبان، ويجبن الشجاع عندما تعتريه المقادير من العلل التي وضعت عليه الأقدار.
قال دمنة: إن إرادة الأسد بك ليست من تحميل الأشرار ولا سكرة السلطان ولا غير ذلك، ولكنها الغدر والفجور منه: فإن فاجرٌ خوانٌ غدارٌ: لطعامه حلاوةٌ وآخره سمٌ مميتٌ. قال شتربة: فأراني قد استلذذت الحلاوة إذ ذقتها: وقد انتهيت إلى آخرها الذي هو الموت؛ ولولا الحين ما كان مقامي عند الأسد، وهو آكل لحمٍ وأنا آكل عشبٍ فأنا في هذه الورطة كالنحلة التي تجلس على نور النيلوفر إذ تستلذ ريحه وطعمه، فتحبسها تلك اللذة؛ فإذا جاء الليل ينضم عليها، فترتبك فيه وتموت. ومن لم يرض من الدنيا بالكفاف الذي يغنيه وطمحت عينه إلى ما سوى ذلك، ولم يتخوف من عاقبتها، كان كالذباب الذي لا يرضى بالشجرة والرياحين، ولا يقنعه ذلك، حتى يطلب الماء الذي يسيل من أذن الفيل، فيضربه الفيل بآذانه فيهلكه. ومن يبذل وده ونصيحته لمن لا يشكره، فهو كمن يبذر في السباخ. ومن يشر على المعجب، فهو كمن يشاور الميت أو يسار الأصم. قال دمنة: دع عنك هذا الكلام واحتل لنفسك. قال شتربة: بأي شيءٍ أحتال لنفسي، إذا أراد الأسد أكلي، مع ما عرفتني به من رأي الأسد وسوء أخلاقه؟ وأعلم أنه لم يرد بي إلا خيراً، ثم أراد أصحابه بمكرهم وفجورهم هلاكي لقدروا على ذلك فإنه إذا اجتمع المكرة الظلمة على البريء الصحيح، كانوا خلقاء أن يهلكوه، وإن كانوا ضعفاء وهو قوي؛ كما أهلك الذئب والغراب وابن آوى الجمل، حين اجتمعوا عليه بالمكر والخديعة والخيانة. قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
قال شتربة: زعموا أن أسداً كان في أجمةٍ مجاورةٍ لطريقٍ من طرق الناس؛ وكان له أصحابٌ ثلاثةٌ: ذئبٌ وغرابٌ وابن آوى؛ وأن رعاةً مروا بذلك الطريق، ومعهم جمالٌ، فتخلف منها جملٌ، فدخل تلك الأجمة حتى انتهى إلى الأسد؛ فقال له الأسد: من أين أقبلت؟ قال: من موضع كذا. قال: فما حاجتك؟ قال: ما يأمرني به الملك. قال: تقيم عندنا في السعة والأمن والخصب. فأقام الأسد والجمل معه زمناً طويلاً. ثم إن الأسد مضى في بعض الأيام لطلب الصيد، فلقي فيلاً عظيماً، فقاتله قتالاً شديداً؛ وأفلت منه مثقلاً مثخناً بالجراح، يسيل منه الدم، وقد خدشه الفيل بأنيابه. فلما وصل إلى مكانه، وقع لا يستطيع حراكاً، ولا يقدر على طلب الصيد؛ فلبث الذئب والغراب وابن آوى أياماً لا يجدون طعاماً: لأنهم كانوا يأكلون من فضلات الأسد وطعامه؛ فأصابهم جوعٌ شديدٌ وهزالٌ، وعرف الأسد ذلك منهم؛ فقال: لقد جهدتم واحتجتم إلى ما تأكلون. فقالوا لا تهمنا أنفسنا: لكنا نرى الملك على ما نراه. فليتنا نجد ما يأكله ويصلحه. قال الأسد: ما أشك في نصيحتكم، ولكن انتشروا لعلكم تصيبون صيداً تأتونني به؛ فيصيبني ويصيبكم منه رزقٌ. فخرج الذئب والغراب وابن آوى من عند الأسد؛ فتنحوا ناحيةً، وتشاوروا فيما بينهم، وقالوا: مالنا ولهذا الأكل العشب الذي ليس شأنه من شأننا، ولا رأيه من رأينا؟ ألا نزين للأسد فيأكله ويطعمنا من لحمه؟ قال ابن آوى: هذا مما لا نستطيع ذكره للأسد: لأنه قد أمن الجمل، وجعل له من ذمته عهداً. قال الغراب: أنا أكفيكم أمر الأسد. ثم انطلق فدخل على الأسد؛ فقال له الأسد: هل أصبت شيئاً؟ قال الغراب: إنما يصيب من يسعى ويبصر. وأما نحن فلا سعي لنا ولا بصر: لما بنا من الجوع؛ ولكن قد وفقنا لرأي واجتمعنا عليه؛ إن وافقنا الملك فنحن له مجيبون. قال الأسد: وما ذاك؟ قال الغراب: هذا الجمل آكل العشب المتمرّغ بيننا من غير منفعة لنا منه، ولا رد عائدةٍ، ولا عمل يعقب مصلحةً. فلما سمع الأسد ذلك غضب وقال: ما أخطأ رأيك، وما اعجز مقالك، وأبعدك من الوفاء والرحمة؟ وما كنت حقيقاً أن تجتري علي بهذه المقالة، وتستقبلني بهذا الخطاب؛ مع ما علمت من أني قد أمنت الجمل، وجعلت له من ذمتي. أو لم يبلغك أنه لم يتصدق متصدقٌ بصدقةٍ هي أعظم أجراً ممن أمن نفساً خائفةً، وحقن دماً مهدراً؟ وقد أمنته ولست بغادر به. قال الغراب: إني لأعرف ما يقول الملك؛ ولكن النفس الواحدة يفتدى بها أهل البيت؛ وأهل البيت تفتدى بهم القبيلة؛ والقبيلة يفتدى بها أهل المصر؛ وأهل المصر فداء الملك. وقد نزلت بالملك الحاجة؛ وأنا أجعل له من ذمته مخرجاً، على ألا يتكلف الملك ذلك، ولا يليه بنفسه، ولا يأمر به أحداً؛ ولكنا نحتال بحيلةٍ لنا وله فيها إصلاحٌ وظفرٌ. فسكت الأسد عن جواب الغراب عن هذا الخطاب. فلما عرف الغراب إقرار الأسد أتى أصحابه، فقال لهم: قد كلمت الأسد في أكله الجمل؛ على أن نجتمع نحن والجمل عند الأسد، فنذكر ما أصابه، ونتوجع له اهتماماً منا بأمره، وحرصاً على صلاحه؛ ويعرض كل واحدٍ منا نفسه عليه تجملاً ليأكله، فيرد الآخران عليه، ويسفها رأيه، ويبينان الضرر في أكله. فإذا فعلنا ذلك، سلمنا كلنا ورضي الأسد عنا. ففعلوا ذلك، وتقدموا إلى الأسد؛ فقال الغراب: قد احتجت أيها الملك إلى ما يقويك؛ ونحن أحق أن نهب أنفسنا لك: فإنا بك نعيش؛ فإذا هلكت فليس لأحدٍ منا بقاءٌ عندك، ولا لنا في الحياة من خيرةٍ؛ فليأكلني الملك: فقد طبت بذلك نفساً. فأجابه الذئب وابن آوى أن اسكت؛ فلا خير للملك في أكلك؛ وليس فيك شبعٌ. قال ابن آوى لكن أنا أشبع الملك، فليأكلني: فقد رضيت بذلك، وطبت عنه نفساً. فرد عليه الذئب والغراب بقولهما: إنك لمنتنٌ قذرٌ. قال الذئب: إني لست كذلك، فليأكلني الملك، فقد سمحت بذلك، وطبن عنه نفساً؛ فاعترضه الغراب وابن آوى وقالا: قد قالت الأطباء: من أراد قتل نفسه فليأكل لحم ذئبٍ. فظن الجمل أنه إذا عرض نفسه على الأكل، التمسوا له عذراً كما التمس بعضهم لبعضٍ الأعذار، فيسلم ويرضى الأسد عنه بذلك، وينجو من المهالك. فقال: لكن أنا في للملك شبعٌ وريٌ؛ ولحمي طيبٌ هنيٌ، وبطني نظيفٌ، فليأكلني الملك، ويطعم أصحابه وخدمه: فقد رضيت بذلك، وطابت نفسي عنه، وسمحت به. فقال الذئب والغراب وابن آوى: لقد صدق الجمل وكرم؛ وقال ما عرف.
ثم إنهم وثبوا عليه فمزقوه.م إنهم وثبوا عليه فمزقوه.
وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنه إن كان أصحاب الأسد قد اجتمعوا على هلاكي فإني لست أقدر أن أمتنع منهم، ولا أحترس؛ وإن كان رأي الأسد لي على غير ما هم من الرأي في، فلا ينفعني ذلك، ولا يغني عني شيئاً. وقد يقال: خير السلاطين من عدل في الناس. ولو أن الأسد لم يكن في نفسه لي إلا الخير والرحمة، لغيرته كثرة الأقاويل: فإنها إذا كثرت لم تلبث دون أن تذهب الرقة والرأفة. ألا ترى الماء ليس كالقول؛ وأن الحجر لم يلبث حتى يثقبه ويؤثر فيه. وكذلك القول في الإنسان. قال دمنة: فماذا تريد أن تصنع الآن؟ قال شتربة: ما أرى إلا الاجتهاد والمجاهدة بالقتال: فإنه ليس للمصلي في صلاته، ولا للمتصدق في صدقته، ولا للورع في ورعه من الأجر ما للمجاهد عن نفسه، إذا كانت مجاهدته على الحق. قال دمنة: لا ينبغي لأحد أن يخاطر بنفسه، وهو يستطيع غير ذلك، ولكن ذا الرأي جاعل القتال آخر الحيل؛ وبادئٍ قبل ذلك بما استطاع من رفقٍ وتمحلٍ. وقد قيل: لا تحقرن العدو الضعيف المهين، ولا سيما إذا كان ذا حيلةٍ ويقدر على الأعوان؛ فكيف بالأسد على جراءته وشدته؟ فإن من حقر عدوه لضعفه أصابه ما أصاب وكيل البحر من الطيطوى قال شتربة: وكيف كان ذلك؟ قال دمنة: زعموا أن طائراً من طيور البحر يقال له الطيطوى كان وطنه على ساحل البحر، ومعه زوجةٌ له، فلما جاء أوان تفريخها قالت الأنثى للذكر: لو التمسنا مكاناً حريزاً نفرخ فيه: فإني أخشى من وكيل البحر إذا مد الماء أن يذهب بفراخنا. فقال لها: أفرخي مكانك: فإنه موافق لنا؛ والماء والزهر منا قريبٌ. قالت له: يا غافل ليحسن نظرك: فإن أخاف وكيل البحر أن يذهب بفراخنا. فقال لها أفرخي مكانك: فإنه لا يفعل ذلك فقالت له: ما أشد تعنتك ! أما تذكر وعيده وتهديده إياك؟ ألا تعرف نفسك وقدرك؟ فأبى أن يطيعها. فلما أكثرت عليه ولم يسمع قولها، قالت له: إن من لم يسمع قول الناصح يصيبه ما أصاب السلحفاة حين لم تسمع قول البطتين. قال الذكر: وكيف كان ذلك؟ قالت الأنثى: زعموا أن غديراً كان عنده عشبٌ، وكان فيه بطتان وكان في الغدير سلحفاةٌ، بينها وبين البطتين مودةٌ وصداقةٌ. فاتفق أن غيض ذلك الماء؛ فجاءت البطتان لوداع السلحفاة، وقالتا: السلام عليك فإننا ذاهبتان عن هذا المكان لأجل نقصان الماء عنه. فقالت: إنما يبين نقصان الماء على مثلي: فإني كالسفينة لا أقدر على العيش إلا بالماء. فأما أنتما فتقدران على العيش حيث كنتما. فاذهبا بي معكما . قالتا لها: نعم. قالت: كيف السبيل إلى حملي؟ قالتا: نأخذ بطرفي عودٍ، وتتعلقين بوسطه؛ ونطير بك في الجو. وإياك، إذا سمعت الناس يتكلمون، أن تنطقي. ثم أخذتاها فطارتا بها في الجو. فقال الناس: عجبٌ: سلحفاة بين بطتين، قد حملتاها. فلما سمعت ذلك قالت: فقأ الله أعينكم أيها الناس، فلما فتحت فاها بالنطق وقعت على الأرض فماتت. قال الذكر: قد سمعت مقالتك؛ فلا تخافي وكيل البحر. فلما مد الماء ذهب بفراخها. فقالت الأنثى: قد عرفت في بدء الأمر أن هذا كائنٌ. قال الذكر: سوف أنتقم منه. ثم مضى إلى جماعة الطير فقال لهن: إنكن أخواتي وثقاتي: فأعنني. قلن: ما تريد أن نفعل؟ قال: تجتمعن وتذهبن معي إلى سائر الطير، فنشكو إليهن ما لقيت من وكيل البحر؛ ونقول لهن: إنكن طيرٌ مثلنا: فأعننا. فقالت له جماعة الطير: إن العنقاء هي سيدتنا وملكتنا: فاذهب بنا إليها حتى نصيح بها، فنظهر لنا؛ فنشكو إليها ما نالك من وكيل البحر؛ ونسألها أن تنتقم لنا بقوة ملكها. ثم إنهن ذهبن إليها من الطيطوى، فستغثنها؛ وصحن بها؛ فتراءت لهن فأخبرنها بقصتهن؛ وسألنها أن تسير معهن إلى محاربة وكيل البحر، فأجابتهن إلى ذلك. فلما علم وكيل البحر أن العنقاء قد قصدته في جماعة الطير خاف من محاربة ملكٍ لا طاقة له به. فرد فراخ الطيطوى؛ وصالحه فرجعت العنقاء عنه.
وإنما حدثتك بهذا الحديث لتعلم أن القتال مع الأسد لا أراه لك رأياً. قال شتربة: فما أنا بمقاتل الأسد، ولا ناصب له العداوة سراً ولا علانيةً لا متغيرٍ له عما كنت عليه، حتى يبدو لي منه ما أتخوف فأغالبه. فكره دمنة قوله، وعلم أن الأسد إن لم ير من الصور العلامات التي ذكرها له اتهمه وأساء به الظن. فقال دمنة لشتربة: اذهب إلى الأسد فستعرف حين ينظر إليك ما يريد منك. قال شتربة: وكيف أعرف ذلك؟ قال دمنة: سترى الأسد حين تدخل عليه مقعياً على ذنبه، رافعاً صدره إليك، ماداً بصره نحوك، قد صر أذنيه وفغر فاه، واستوى للوثبة. قال شتربة: إن رأيت هذه العلامات من الأسد عرفت صدقك في قولك. ثم إن دمنة لما فرغ من حمل الأسد على الصور، والثور على الأسد توجه إلى كليلة. فلما التقيا، قال كليلة: إلام انتهى عملك الذي كنت فيه؟ قال دمنة: قريبٌ من الفراغ على ما أحب وتحب. ثم إن كليلة ودمنة انطلقا جميعاً ليحضرا قتال الأسد والثور، وينظرا ما يجري بينهما، ويعاينا ما يئول إليه أمرهما. وجاء شتربة، فدخل على الأسد، فرآه مقعياً كما وصفه له دمنة، فقال: ما صاحب السلطان إلا كصاحب الحية التي في مبيته ومقيله، فلا يدري متى تهيج به. ثم إن الأسد نظر إلى الثور فرأى الدلالات التي ذكرها له دمنة: فلم يشك أنه جاء لقتاله. فواثبه، ونشأ بينهما الحرب، واشتد قتال الثور والأسد، وطال، وسالت بينهما الدماء. فلما رأى كليلة أن الأسد قد بلغ منه ما قد بلغ.
قال لدمنة: أيها الفسل ما أنكر جهلتك وأسوأ عاقبتك في تدبيرك! قال دمنة: وما ذاك؟ قال كليلة: جرح الأسد وهلك الثور. وإن أخرق الخرق من حمل صاحبه على سوء الخلق والمبارزة والقتال، وهو يجد إلى غير ذلك سبيلاً. وإن العاقل يدبر الأشياء ويقيسها قبل مباشرتها: فما رجا أن يتم له منها أقدم عليه، وما خاف أن يتعذر عليه منها انحرف عنه، ولم يلتفت إليه. وإني لأخاف عليك عاقبة بغيك هذا: فإنك قد أحسنت القول ولم تحسن العمل. أين معاهدتك إياي أنك لا تضر بالأسد في تدبيرك؟ وقد قيل: لا خير في القول إلا مع العمل، ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع النية، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء، ولا في الحياة إلا مع الصحة، ولا في الأمن إلا مع السرور.
واعلم أن الأدب يذهب عن العاقل الطيش، ويزيد الأحمق طيشاً؛ كما أن النهار يزيد كل ذي بصر نظراً، ويزيد الخفاش سوء النظر.
وقد أذكرني أمرك شيئاً سمعته، فإن يقال: إن السلطان إذا كان صالحاً، ووزراؤه وزراء سوءٍ، منعوا خيره، فلا يقدر أحدٌ أن يدنو منه. ومثله في ذلك مثل الماء الطيب الذي فيه التماسيح: لا يقدر أحدٌ أن يتناوله، وإن كان إلى الماء محتاجاً. وأنت يا دمنة أردت ألا يدنو من الأسد أحد سواك. وهذا أمرٌ لا يصح ولا يتم أبداً. وذلك للمثل المضروب: إن البحر بأمواجه، والسلطان بأصحابه. ومن الحمق الحرص على التماس الإخوان بغير الوفاء لهم، وطلب الآخرة بالرياء، ونفع النفس بغير الضر. وما عظتي وتأديبي إياك إلا كما قال الرجل للطائر: لا تلتمس تقويم ما لا يستقيم، ولا تعالج تأديب من لا يتأدب. قال دمنة: وكيف كان ذلك؟ قال كليلة: زعموا أن جماعةً من القردة كانوا سكاناً في جبلٍ، فالتمسوا في ليلةٍ باردةٍ ذات رياح وأمطارٍ نادراً، فلم يجدوا، فرأوا يراعةً تطير كأنها شرارة نارٍ، فظنوها ناراً، وجمعوا حطباً كثيراً فألقوه عليها، وجعلوا ينفخون طمعاً أن يوقدوا ناراً يصطلون بها من البرد. وكان قريباً منهم طائر على شجرةٍ، ينظرون إليه وينظر إليهم، وقد رأى ما صنعوا، فجعل يناديهم ويقول: لا تتعبوا فإن الذي رأيتموه ليس بنارٍ. فلما طال ذلك عليه عزم على القرب منهم لنهاهم عما هم فيه، فمر به رجلٌ فعرف ما عزم عليه. فقال له: لا تلتمس تقومي ما لا يستقيم: فإن الحجر المانع الذي لا ينقطع لا تجرب عليه السيوف، والعود الذي لا نحني لا يعمل منه القوس: فلا تتعب. فأبى الطائر أن يطيعه، وتقدم إلى القردة ليعرفهم أن البراعة ليسن بناءٍ. فتناوله بعض القردة فضرب به الأرض فمات. فهذا مثلي معك في ذلك. ثم قد غلب عليك الخبّ والفجور ، وهما خلتا سوءٍ، والخصب شرهما عاقبةً. ولهذا مثل. قال دمنة: وما ذلك المثل؟ قال كليلة: زعموا أن خباً ومغفلاً اشتركا في تجارةٍ وسافرا، فبينما هما في الطريق، إذ تخلف المغفل لبعض حاجته، فوجد كيساً فيه ألف دينار، فأخذه؛ فأحس به الخب، فرجعا إلى بلدهما؛ حتى إذا دنوا من المدينة قعدا لاقتسام المال. فقال المغفل: خذ نصفه وأعطني نصفه؛ وكان الخب قد قرر في نفسه أن يذهب بالألف جميعه. فقال له: لا نقتسم، فإن الشركة والمفاوضة أقرب إلى الصفاء والمخالطة؛ ولكن آخذ نفقةً، وتأخذ مثلها؛ وندفن الباقي في أصل هذه الشجرة: فهو مكانٌ حريزٌ. فإذا احتجنا جئنا أنا وأنت فنأخذ حاجتنا منه؛ ولا يعلم بموضعنا أحدٌ. فأخذا منه يسيراً، ودفنا الباقي في أصل دوحةٍ، ودخلا البلد. ثم إن الخب خالف المغفل إلى الدنانير فأخذها، وسوى الأرض كما كانت. وجاء المغفل بعد ذلك بأشهر فقال للخب: قد احتجت إلى نفقةٍ فانطلق بنا نأخذ حاجتنا؛ فقام الخب معه وذهبا إلى المكان فحفرا، فلم يجدا شيئاً. فأقبل الخب على وجهه يلطمه يقول: لا تغتر بصحبة صاحب: خالفتني إلى الدنانير فأخذتها. فجعل المغفل يحلف ويلعن آخذها ولا يزداد الحب إلا شدة في اللطم. وقال: ما أخذها غيرك. وهل شعر بها أحدٌ سواك؟ ثم طال ذلك بينهما، فترافعا إلى القاضي، فاقتص القاضي قصتهما، فادعى الخب أن المغفل أخذها، وجحد المغفل. فقال للخب: ألك على دعواك بينة؟ قال: نعم الشجرة التي كانت الدنانير عندها تشهد لي أن المغفل أخذها. وكان الخب قد أمر أباه أن يذهب فيتوارى في الشجرة بحيث إذا سئلت أجاب. فذهب أبو الخب فدخل جوف الشجرة. م إن القاضي لما سمع ذلك من الخب أكبره، وانطلق هو وأصحابه والخصب والمغفل معه؛ حتى وافى الشجرة؛ فسألها عن الخبر. فقال الشيخ من جوفها: نعم المغفل أخذها. فلما سمع القاضي ذلك اشتد تعجبه. فدعا بحطب وأمر أن تحرق الشجرة. فأضرمت حولها النيران فاستغاث أبو الخب عند ذلك. فأخرج وقد أشرف على الهلاك. فسأله القاضي عن القصة فأخبره بالخبر؛ فأوقع بالخب ضرباً، وبأبيه صفعاً، وأركبه مشهوراً ، وغرّم الخب الدنانير فأخذها وأعطاها المغفل.
وإنما ضربت لك هذا المثل لتعمل أن الحب والخديعة ربما كان صاحبها هو المغبون. وإنك يا دمنة جامعٌ للخب والخديعة والفجور. وإني أخشى عليك ثمرة عملك، مع أنك لست بناجٍ من العقوبة: لأنك ذو لونين ولسانين. وإنما عذوبة ماء الأنهار ما لم تبلغ إلى البحار. وصلاح أهل البيت ما لم يكن فيهم المفسد. وإنه لا شيء أشبه بك من الحية ذات اللسانين التي فيها السم: فإن قد يجري من لسانك كسمها. وإني لم أزل لذلك السم من لسانك خائفاً، ولما يحل بك متوقعاً، والمفسد بين الإخوان والأصحاب كالحية يربيها الرجل ويطعمها ويمسحها ويكرمها، ثم لا يكون له منها غير اللدغ. وقد يقال: الزم ذا العقل وذا الكرم، واسترسل إليهما، وإياك ومفارقتهما؛ واصحب الصاحب إذا كان عاقلاً كريماً أو عاقلاً غير كريمٍ: فالعاقل الكريم كاملٌ، والعاقل غير الكريم أصحبه، وإن كان غير محمود الخليقة، وأحذر من سوء أخلاقه وانتفع بعقله، والكريم غير العاقل، الزمه ولا تدع مواصلته، وإن كنت لا تحمد عقله، وانتفع بكرمه، وانفعه بعقلك؛ والقرار كل القرار من اللئيم الأحمق. وإني بالفرار منك لجديرٌ. وكيف يرجو إخوانك عندك كرماً ووداً وقد صنعت بملكك الذي أكرمك وشرفك ما صنعت؟ وإن مثلك مثل التاجر الذي قال: إن أرضاً تأكل جرذانها مائة منًّ حديداً، ليس بمستنكر على بزاتها أن تختطف الأفيال. قال دمنة: وكيف كان ذلك؟ قال كليلة: زعموا أنه كان بأرض كذا تاجرٌ، فأراد الخروج إلى بعض الوجوه لابتغاء الرزق؛ وكان عنده مائة من حديداً؛ فأودعها رجلاً من إخوانه، وذهب في وجهه. ثم قدم بعد ذلك بمدةٍ؛ فجاء والتمس الحديد، فقال له: إنه قد أكلته الجرذان. فقال: قد سمعت أنه لاشيء أقطع من أنيابها للحديد. ففرح الرجل بتصديقه على ما قال وادعى. ثم إن التاجر خرج، فلقي ابناً للرجل؛ فأخذه وذهب به إلى منزله؛ ثم رجع إليه الرجل من الغد فقال له: هل عندك علم بابني: فقال له التاجر: إني لما خرجت من عندك بالأمس، رأيت بازياً قد اختطف صبياً، ولعله ابنك. فلطم الرجل على رأسه وقال: يا قوم هل سمعتم أو رأيتم أن البزاة تخطف الصبيان؟ فقال: نعم. وإن أرضاً تأكل جرذانها مائة منً من حديداً ليس بعجب أن تختطف بزاتها الفيلة. قال له الرجل: أنا أكلت حديدك وهذا ثمنه. فاردد على ابني. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنك إذا غدرت بصاحبك فلا شك أنك بمن سواه أغدر؛ وأنه إذا صاحب أحد صاحباً وغدر بمن سواه فقد علم صاحبه أنه ليس عنده للمودة موضعٌ: فلا شيء أضيع من مودةٍ تمنح من لا وفاء له، وحباءٍ يصطنع عند من لا شكر له، وأدبٍ يحمل إلى من لا يتأدب به ولا يسمعه، وسر يستودع من لا يحفظه؛ فإن صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر: كالريح إذا مرت بالطيب حملت طيباً، وإذا مرت بالنتن حملت نتناً، وقد طال وثقل كلامي عليك. فانتهى كليلة من كلامه إلى هذا المكان وقد فرغ الأسد من الثور، ثم فكر في قتله بعد أن قتله وذهب عنه الغضب. وقال: لقد فجعني شتربة بنفسه؛ وقد كان ذا عقلٍ ورأيٍ وخلقٍ كريمٍ، ولا أدري لعله كان بريئاً أو مكذوباً عليه؛ فحزن وندم على ما كان منه، وتبين ذلك في وجهه؛ وبصر به دمنة، فترك محاورة كليلة، وتقدم إلى الأسد فقال له: ليهنئك الظفر إذ أهلك الله أعداءك. فماذا يحزنك أيها الملك؟ قال: أنا حزينٌ على عقل شتربة ورأيه وأدبه؟ قال له دمنة: لا ترحمه أيها الملك: فإن العاقل لا يرحم من يخافه. وإن الرجل الحازم ربما أبغض الرجل وكرهه، ثم قربه وأدناه: لما يعلم عنده من الغناء والكفاية، فعل الرجل المتكاره على الدواء الشنيع رجاء منفعته. وربما أحب الرجل، وعز عليه، فأقصاه وأهلكه، مخافة ضرره؛ كالذي تلدغه الحية في إصبعه فيقطعها، ويتبرأ منها مخافة أن يسر سمها إلى بدنه. فرضي الأسد بقول دمنة. ثم علم بعد ذلك بكذبه وغدره وفجوره فقتله شر قتلةٍ.